تأرجُح الفكر- بين التطرّف والتوسّط في جدليات الصحوة الفكرية.
المؤلف: نجيب يماني11.24.2025

لطالما كانت ثلاثية التطرّف والاعتدال والإفراط، بمستوياتها المتنوعة والمتباينة، محط اهتمام العقل البشري وميدانًا لتدفق أفكاره، فيما يواجهه من قناعات وآراء، سواء كانت سماوية أو دنيوية، وذلك بدرجات متفاوتة تتحكم بها عوامل جمة، تتداخل وتتقاطع وتتوازى لتشكل في نهاية المطاف موقفه الفريد، وانحيازه المحصن بقناعاته، وإيمانه الذي يضيء طريقه بين الناس في طمأنينة وسكينة.
وما عانت البشرية من محنة أشد قسوة من أولئك الذين يسعون جاهدين لإجبار الناس، بالقوة والعنف والتصلب والتطرف والتشدد، على تقبل نتاج عقولهم والامتثال لمعتقداتهم والانسجام مع تأويلاتهم المنحرفة، وتفسيراتهم الضيقة، محتكرين "الحق" بظلم وجهل عظيمين.
لقد قاسينا في هذه البلاد المباركة حقبة طويلة من الزمن من فئة منهم في عصر الغفلة الذي تجسد زورًا باسم "الصحوة"، ولم يكن لها من اسمها نصيب إلا إيقاظ الفتن الكامنة وإذكاء نار التعصب والانقسام والتشرذم، ولكن البشرى أطلت علينا مع انبلاج فجر "الرؤية" التي اقتلعت جذور "الصحوة" وشفيت غضبها المتأجج، ولجمت خطاب غلوها المتصاعد من ألسنة قاسية شحيحة على الخير، فتنفس الناس الصعداء وتخلصت آذاننا من خطابات التبديع والتفسيق والتكفير والاتهامات العشوائية.
إننا نأمل في هذا الحال خيرًا وفيرًا، ونتطلع إلى الاستقرار الأمثل بنزعات الاعتدال والوسطية التي حث عليها ديننا السمح، ونبذًا للإفراط وتجنبًا للإهمال، وهو درس استوعبه الكثيرون ممن ركبوا موجة "الصحوة" في الماضي، بعد أن بالغوا في التفريق بين الناس بتفحص النوايا والتعجل في التصنيف والمسارعة إلى التبديع والتفسيق والتكفير لكل من خالف منهجهم ورأى غير ما يرون في مسائل تحتمل الاختلاف ووجهات النظر المتباينة، فاستقاموا بعد تطرف، وصح منطقهم بعد اعتلال.
ومع ذلك، لا يزال البعض متمسكًا بعهد "الصحوة" القديم، واضعًا نفسه في مقام المحتكر لفهم الدين، والحامل لأختام "التصنيف" والجالس على أبواب القلوب يحصي ما يمر بها وما يختبئ فيها، متعاليًا على الذات الإلهية، ومتخذًا لنفسه مكانة "المصحح" للعقائد، ومنصباً نفسه مسؤولًا عن علاقة الآخرين بخالقهم.
فإذا رأيت في كلامي هذا تعميمًا لا تدعمه أمثلة واقعية، فما علي إلا أن ألفت انتباهك إلى ما تفضل به الكاتب محمد السعيدي من آراء ضمن مقاله المنشور في صحيفة "الوطن" بتاريخ الأول من سبتمبر 2024م، تحت عنوان "عدت على الرحب والسعة يا شيخ فدعق"، في سياق رده على مقال للكاتب عبدالله فدعق، الموسوم بـ "كفى تبديعًا".
في ثنايا هذا الرد، تستيقظ أفكار "الصحوة" من سباتها السريري، وتحاول أن تنهض من مرقد قبرها المحكم الإغلاق، سواء أدرك السعيدي ذلك أم لم يدرك! فإن وجد في هذا الأمر ما يثير استغرابه، فليعد إلى تفاصيل رده، بدءًا من عنوانه "عدت على الرحب والسعة يا شيخ فدعق"، وما يحمله من شحنة "التربص" التي كشفت عنها طيات المقال، فلم يكفه ما ورد في مقال "فدعق" من طرح حول "البدعة"، والذي استحسنه "السعيدي" بقوله: [نشر عبدالله فدعق في صحيفة «الوطن» مقالة جميلة يدعو فيها إلى الوحدة وترك الخصومة، والانشغال بما هو الألزم والأهم من دفع الصائلين على بلادنا في الإعلام الخارجي]، فكان الأجدر به أن يسير في نفس الاتجاه، وينسجم مع الخطاب الداعي إلى الوحدة، وأن يراجع موقفه "هو" من "البدعة"، ويضيف إلى فهم "فدعق" فهمًا جديدًا بتصحيح اعتقاد البعض عنها، وتذكيرهم بأن "البدعة" ليست دليلًا شرعيًا يحمل في طياته حكمًا قاطعًا، وإنما هي "وصف" لحالة، يكون الحكم عليها قائمًا على وضعها في موازين الشريعة، وفقًا للأحكام التكليفية الخمسة: الفرض، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة، وأن يلتزم بما اتفق عليه العلماء في مقام العلم والبحث بهدوء وسعة أفق ومرجعية سليمة، وما استقر من أقوال الأفاضل في هذا الدرس المهم، وما جاء في كتب الأئمة أمثال الشافعي وابن الأثير والغزالي والزركشي والشاطبي وغيرهم، ممن عرفوا البدعة خير تعريف، وأنزلوها المنزلة اللائقة بها، بعيدًا عن القلق والنفور والترهيب.
هذا ما كنت أطمح إليه وأترقبه من "السعيدي"، إلا أنه وجد في نفسه المجال لإعادة إحياء نهج "الصحوة" بالصعود على منصة التصنيف، والتشبث بحمل الأختام، والتجرؤ على استكشاف النوايا، ولم يزد على أن ذكّر "فدعق" بماضيه "الصوفي" وآراء شيوخه، مطالبًا إياه بتوضيح موقفه من مسألتين، تتعلق الأولى بـ "دعاء غير الله تعالى والاستغاثة بالأموات"، والأخرى بذكر الله بطرق مخالفة كالقفز والرقص.. معتبرًا ذلك من "مُضلات الصوفية"، واضعًا نفسه في "مرتبة سامية"، بانتظار رد "فدعق" على هاتين المسألتين، حتى ينظر في قضيته ويصدر حكمه بشأنه، في سياق قوله: [.. وتكفيني هاتين المسألتين اللتين أفصحت عنهما، فلعل الشيخ يوافينا بمقالة يبرأ فيها من القول بدعاء غير الله تعالى سواء أكان وثنًا أو صاحب قبر، كما يبرأ من القول على الله بغير علم في مسألة الرقص وزعم أنه لله تعالى].
وهنا يكمن استغرابي ودهشتي، فبأي حق اكتسب "السعيدي" هذا التعالي، وبأي جرأة نصب نفسه مصنفًا ومصححًا للعقائد، ولو أنه أنصف نفسه أولًا، لعلم أنه خلط خلطًا شنيعًا في مسألتيه، بين مسائل الفقه ومسائل العقيدة، وبينهما من الفروقات ما يدركه العلماء الأجلاء ويفهمه الراسخون في العلم، وكذلك الحال مع مسألة الحركة عند الذكر ووصفها بـ "القفز والرقص"، فهذان موضوعان طويلان يحتاجان إلى هدوء بال كما ذكرت سابقًا، ونقاش مبني على قاعدة أساسية هي "لا تحريم إلا بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، بحيث لا يحتمل الشك"، وأن يتمتع من يخوض فيهما بسعة الأفق وشمول المعرفة وسطوع الحجة ووقار الحكمة وحسن الموعظة، وجوهر ذلك في حسن الظن بالمسلم وإن خالف رأيه رأي أخيه، بهذا ترتكز قواعد مجالس العلم الحقيقي وتتحقق مقاصدها من النفع والإصلاح، ولن يبلغ ذلك من جلس قلقًا ومتربصًا ومتعاليًا بحمل أختام التصنيف بغرور كاذب وجرأة غريبة تنسيه إصلاح نفسه وتضيع عليه فرصة معالجة عيوبه.
وما عانت البشرية من محنة أشد قسوة من أولئك الذين يسعون جاهدين لإجبار الناس، بالقوة والعنف والتصلب والتطرف والتشدد، على تقبل نتاج عقولهم والامتثال لمعتقداتهم والانسجام مع تأويلاتهم المنحرفة، وتفسيراتهم الضيقة، محتكرين "الحق" بظلم وجهل عظيمين.
لقد قاسينا في هذه البلاد المباركة حقبة طويلة من الزمن من فئة منهم في عصر الغفلة الذي تجسد زورًا باسم "الصحوة"، ولم يكن لها من اسمها نصيب إلا إيقاظ الفتن الكامنة وإذكاء نار التعصب والانقسام والتشرذم، ولكن البشرى أطلت علينا مع انبلاج فجر "الرؤية" التي اقتلعت جذور "الصحوة" وشفيت غضبها المتأجج، ولجمت خطاب غلوها المتصاعد من ألسنة قاسية شحيحة على الخير، فتنفس الناس الصعداء وتخلصت آذاننا من خطابات التبديع والتفسيق والتكفير والاتهامات العشوائية.
إننا نأمل في هذا الحال خيرًا وفيرًا، ونتطلع إلى الاستقرار الأمثل بنزعات الاعتدال والوسطية التي حث عليها ديننا السمح، ونبذًا للإفراط وتجنبًا للإهمال، وهو درس استوعبه الكثيرون ممن ركبوا موجة "الصحوة" في الماضي، بعد أن بالغوا في التفريق بين الناس بتفحص النوايا والتعجل في التصنيف والمسارعة إلى التبديع والتفسيق والتكفير لكل من خالف منهجهم ورأى غير ما يرون في مسائل تحتمل الاختلاف ووجهات النظر المتباينة، فاستقاموا بعد تطرف، وصح منطقهم بعد اعتلال.
ومع ذلك، لا يزال البعض متمسكًا بعهد "الصحوة" القديم، واضعًا نفسه في مقام المحتكر لفهم الدين، والحامل لأختام "التصنيف" والجالس على أبواب القلوب يحصي ما يمر بها وما يختبئ فيها، متعاليًا على الذات الإلهية، ومتخذًا لنفسه مكانة "المصحح" للعقائد، ومنصباً نفسه مسؤولًا عن علاقة الآخرين بخالقهم.
فإذا رأيت في كلامي هذا تعميمًا لا تدعمه أمثلة واقعية، فما علي إلا أن ألفت انتباهك إلى ما تفضل به الكاتب محمد السعيدي من آراء ضمن مقاله المنشور في صحيفة "الوطن" بتاريخ الأول من سبتمبر 2024م، تحت عنوان "عدت على الرحب والسعة يا شيخ فدعق"، في سياق رده على مقال للكاتب عبدالله فدعق، الموسوم بـ "كفى تبديعًا".
في ثنايا هذا الرد، تستيقظ أفكار "الصحوة" من سباتها السريري، وتحاول أن تنهض من مرقد قبرها المحكم الإغلاق، سواء أدرك السعيدي ذلك أم لم يدرك! فإن وجد في هذا الأمر ما يثير استغرابه، فليعد إلى تفاصيل رده، بدءًا من عنوانه "عدت على الرحب والسعة يا شيخ فدعق"، وما يحمله من شحنة "التربص" التي كشفت عنها طيات المقال، فلم يكفه ما ورد في مقال "فدعق" من طرح حول "البدعة"، والذي استحسنه "السعيدي" بقوله: [نشر عبدالله فدعق في صحيفة «الوطن» مقالة جميلة يدعو فيها إلى الوحدة وترك الخصومة، والانشغال بما هو الألزم والأهم من دفع الصائلين على بلادنا في الإعلام الخارجي]، فكان الأجدر به أن يسير في نفس الاتجاه، وينسجم مع الخطاب الداعي إلى الوحدة، وأن يراجع موقفه "هو" من "البدعة"، ويضيف إلى فهم "فدعق" فهمًا جديدًا بتصحيح اعتقاد البعض عنها، وتذكيرهم بأن "البدعة" ليست دليلًا شرعيًا يحمل في طياته حكمًا قاطعًا، وإنما هي "وصف" لحالة، يكون الحكم عليها قائمًا على وضعها في موازين الشريعة، وفقًا للأحكام التكليفية الخمسة: الفرض، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة، وأن يلتزم بما اتفق عليه العلماء في مقام العلم والبحث بهدوء وسعة أفق ومرجعية سليمة، وما استقر من أقوال الأفاضل في هذا الدرس المهم، وما جاء في كتب الأئمة أمثال الشافعي وابن الأثير والغزالي والزركشي والشاطبي وغيرهم، ممن عرفوا البدعة خير تعريف، وأنزلوها المنزلة اللائقة بها، بعيدًا عن القلق والنفور والترهيب.
هذا ما كنت أطمح إليه وأترقبه من "السعيدي"، إلا أنه وجد في نفسه المجال لإعادة إحياء نهج "الصحوة" بالصعود على منصة التصنيف، والتشبث بحمل الأختام، والتجرؤ على استكشاف النوايا، ولم يزد على أن ذكّر "فدعق" بماضيه "الصوفي" وآراء شيوخه، مطالبًا إياه بتوضيح موقفه من مسألتين، تتعلق الأولى بـ "دعاء غير الله تعالى والاستغاثة بالأموات"، والأخرى بذكر الله بطرق مخالفة كالقفز والرقص.. معتبرًا ذلك من "مُضلات الصوفية"، واضعًا نفسه في "مرتبة سامية"، بانتظار رد "فدعق" على هاتين المسألتين، حتى ينظر في قضيته ويصدر حكمه بشأنه، في سياق قوله: [.. وتكفيني هاتين المسألتين اللتين أفصحت عنهما، فلعل الشيخ يوافينا بمقالة يبرأ فيها من القول بدعاء غير الله تعالى سواء أكان وثنًا أو صاحب قبر، كما يبرأ من القول على الله بغير علم في مسألة الرقص وزعم أنه لله تعالى].
وهنا يكمن استغرابي ودهشتي، فبأي حق اكتسب "السعيدي" هذا التعالي، وبأي جرأة نصب نفسه مصنفًا ومصححًا للعقائد، ولو أنه أنصف نفسه أولًا، لعلم أنه خلط خلطًا شنيعًا في مسألتيه، بين مسائل الفقه ومسائل العقيدة، وبينهما من الفروقات ما يدركه العلماء الأجلاء ويفهمه الراسخون في العلم، وكذلك الحال مع مسألة الحركة عند الذكر ووصفها بـ "القفز والرقص"، فهذان موضوعان طويلان يحتاجان إلى هدوء بال كما ذكرت سابقًا، ونقاش مبني على قاعدة أساسية هي "لا تحريم إلا بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، بحيث لا يحتمل الشك"، وأن يتمتع من يخوض فيهما بسعة الأفق وشمول المعرفة وسطوع الحجة ووقار الحكمة وحسن الموعظة، وجوهر ذلك في حسن الظن بالمسلم وإن خالف رأيه رأي أخيه، بهذا ترتكز قواعد مجالس العلم الحقيقي وتتحقق مقاصدها من النفع والإصلاح، ولن يبلغ ذلك من جلس قلقًا ومتربصًا ومتعاليًا بحمل أختام التصنيف بغرور كاذب وجرأة غريبة تنسيه إصلاح نفسه وتضيع عليه فرصة معالجة عيوبه.
